لم
يكد ينتهي المسلمون من طاعون عمواس حتى وافاهم أمر آخر؛ فإن العلاء بن
الحضرمي -كما نعلم- كان قائد الجيش السابع من الجيوش التي وجهها سيدنا أبو
بكر الصديق لقتال المرتدين وفتح البحرين، وقد قام بفتح البحرين وأصبح
أميرًا لها من قِبَل سيدنا أبي يكر الصديق، ثم أقره سيدنا عمر بن الخطاب
على عمله بعد خلافته.
وقد كان لسيدنا العلاء بن الحضرمي نفسٌ توّاقة إلى الجهاد، ورأى سيدنا
العلاء بن الحضرمي ما حققه المسلمون من انتصارات كبيرة على أرض فارس، فأراد
أن يشارك في الجهاد ضد الدولة الفارسية كما يجاهد إخوانه، رغم القرار الذي
أصدره سيدنا عمر بن الخطاب بوقف التوغل في الأراضي الفارسية، فقرر
اجتهادًا منه إرسال بعض الفرق للجهاد شرقي خليج فارس، عبر الخليج العربي
(الفارسي في ذلك الوقت)، في الوقت الذي كانت منطقة نفوذ المسلمين حتى
رَامَهُرمُز، وهذه المنطقة كلها تقع شمال هذه المنطقة تمامًا، وهذه المنطقة
تسمى جنوب الأهواز وبعيدة عن نفوذ المسلمين ولا تقع تحت إمرة الهرمزان،
فهي بعيدة -إذن- عن المسلمين، ولم يدخلها المسلمون من قبل، فأراد سيدنا
العلاء أن يفتح هذه المنطقة، فجهز جيشًا من البحرين، وقسم الجيش إلى ثلاث
فرق رئيسية؛ على رأس الفرقة الأولى سيدنا الجارود بن المُعَلَّى، وكان
لسيدنا الجارود بن المُعَلَّى الثواب الجزيل من الله ؛ وذلك لما ارتدت
الجزيرة العربية كلها إلا قرية "جَوَاثا" قرية الجارود بن المُعَلَّى؛ فقد
قام فيهم خطيبًا ليثبتهم على الإسلام، وأعلن أنه على دين الإسلام، وأنه
سيقاتل كل من ارتدَّ عن دين الله، فثبت قومه على الإسلام بعد مقالته، فكان
الجارود بن المُعَلَّى على رأس فرقة من الجيش الذي أرسله سيدنا العلاء بن
الحضرمي إلى شرق فارس.
وعلى رأس الفرقة الأخرى أحد القادة وهو سوار بن همام، والفرقة الثالثة
على رأسها خُلَيْد بن المنذر بن ساوي، والمنذر بن ساوي هو الذي أعطى العهد
للنبي بإسلامه وبإسلام البحرين كلها، وكان رجل حسن السيرة وكان من
الصالحين، وبموته ارتدت البحرين، فرضي الله عنه وأرضاه، وخُلَيْد هذا ابنه.
فنزل الجيش بفرقه الثلاثة في الجهة الشرقية من خليج فارس، وأمَّر على
الفرق الثلاثة خليد بن المنذر بن ساوي، ونزل الجيش في منطقة تسمى منطقة
"طاوس".
وكان سيدنا عمر بن الخطاب قد أصدر أمرًا بعدم غزو المسلمين للبحر إلا
بعد إذنه؛ وبذلك يكون سيدنا العلاء بن الحضرمي قد خالف سيدنا عمر بن الخطاب
في أمرين، وهما: نهي سيدنا عمر بن الخطاب عن التوغل في بلاد فارس. والأمر
الثاني: مخالفة سيدنا عمر بن الخطاب في غزوه لبلاد فارس عبر البحر بالسفن
من البحرين إلى الشاطئ الشرقي من خليج فارس.
وعسكر المسلمون في طاوس، وبمجرد نزولهم في طاوس يخرج لهم جيش فارس على
رأسه قائد من قواد الفرس يدعى "هربذ"، وتدور بين الجيوش الثلاثة وهربذ
معركة شديدة على المسلمين، ويفلح هربذ هذا في الالتفاف حول الجيش الإسلامي
ويغرق السفن في المياه، ولم يكن أمام المسلمين إلا القتال أمام الفرس، ولم
يكن أمامهم خط رجعة للبحرين، وكانت هذه المعركة شديدة على المسلمين وعلى
الفرس، وأحدث المسلمون خسائر فادحة في صفوف الفرس لكن على حساب شهداء كثير
من المسلمين، وكان ذلك تكرارًا لمشكلة الجسر بمعصية القائد المباشر للقائد
الأعلى، فتتكرر المشكلة للمرة الثانية، ويخسر المسلمون كثيرًا من الشهداء
منهم الجارود بن المُعَلَّى وسوار بن همام رضي الله عنهما، وهما من قادة
الجيش، ويبقى خليد بن المنذر بن ساوي على رأس الجيوش يحفزهم على القتال،
ويذكرهم أنه لم يبقَ أمامهم إلا قتال الفرس، وانتصر المسلمون على جيش الفرس
انتصارًا عظيمًا، لكن بعد انتصار الجيش على الفرس لم يجد المسلمون السفن
التي تحملهم إلى البحرين، ولم يجد أمامه إلا اللجوء إلى أرض البصرة ليستنجد
بجيش المسلمين الذي يعسكر في البصرة، وفي طريقه إلى البصرة يعترضه جيش آخر
من "إِصْطَخْر" على رأسه قائد يدعى "شَهْرَك"، ويحاصر الجيش الإسلامي في
مكان قريب من مدينة طاوس، في ذلك الوقت تصل الأنباء إلى سيدنا عمر بن
الخطاب t في المدينة أن العلاء أرسل جيشًا لحرب الفرس، وأن
الجيش قد انتصر في المعركة ودخل في معركة أخرى، وحُوصِرَ الجيش الإسلامي
ولم يجد أمامه حلاًّ، وبمجرد وصول هذا الخبر إليه يقرر عزل العلاء بن
الحضرمي من الإمارة، وأرسله إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص تحت إمرته جنديًّا
من جنوده في الكوفة..
فكان هذا أول عقاب عاقبه سيدنا عمر بن الخطاب له على معصيته الشديدة
التي ألحقت الأذى بالمسلمين في معركة طاوس، ثم أرسل رسالة إلى سيدنا عتبة
بن غزوان بأن يُخرِج جيشًا كثيفًا من المسلمين لنجدة الجيش الإسلامي
الموجود في هذه المنطقة على خطورتها، فهي منطقة جبال والمسلمون لم يتعودوا
على هذه الأرض، وعلى إِثْرِ هذه الرسالة يجهز سيدنا عتبة بن غزوان في أقل
من يومين جيشًا تعداده اثنا عشر ألف مقاتل، ومع المسلمين في الجيش سيدنا
عاصم بن عمرو التميمي، وسيدنا حذيفة بن محصن قائد الجيش الثامن من جيوش
الردة، وسيدنا عرفجة بن هرثمة قائد الجيش التاسع من جيوش الردة، وكان على
رأس الجيوش سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم, ويبدو أن سيدنا أبا سبرة من
الكفاءات الحربية النادرة لدرجة أن يضع سيدنا عتبة بن غزوان القادة العظام
تحت إمرته، ويوافقه على ذلك عمر بن الخطاب في المدينة.
فخرج الجيش وسار بجوار شط العرب، ثم بجوار شاطئ خليج فارس على الجبال
يُجَنِّبون الخيل ويركبون البغال سِراعًا؛ لأن البغال الفارسية التي غنموها
من فارس تستطيع السير على الجبال بخلاف الخيول العربية، وفي ذلك مرونة
شديدة للجيش الإسلامي واستغلالاً للمواقف.
ويصل الجيش الإسلامي إلى الجيش المحاصَر في منطقة فارس، ويدخل المسلمون
مع جيش "شهرك" في معركة شديدة، وكانت النتيجة أن انهزمت القوات الفارسية
هزيمة منكرة واجتاحهم المسلمون، واستطاع الجيش الإسلامي أن يفك الحصار عن
الجيش المحاصَر ورجع به إلى البصرة، فلم يكن مطلوبًا منهم فتح هذه البلاد.
وكانت عودة الجيش الإسلامي في أواخر ذي القعدة وبداية ذي الحجة، فاستأذن
سيدنا عتبة بن غزوان من سيدنا عمر بن الخطاب في أواخر العام السابع عشر
الهجري أن يذهب للحج هذا العام، فوافق سيدنا عمر على طلبه؛ فيستخلف سيدنا
عتبة على البصرة المغيرة بن شعبة وهو من صحابة النبي وكان الحارس الخاص
لرسول الله، وكان في الوفد الذي ذهب إلى يزدجرد (كانوا أربعة عشر رجلاً،
وكانوا يعدون الرجل في هذا الوفد بألف رجل)، وكان يتكلم الفارسية.
وبعد انتهاء سيدنا عتبة بن غزوان من الحج يأمره سيدنا عمر بن الخطاب
بالرجوع إلى البصرة أميرًا كما كان؛ فيرفض سيدنا عتبة بن غزوان ويسأل سيدنا
عمر بن الخطاب أن يُقِيلَه فلم يفعل، فلما وجد سيدنا عمر بن الخطاب إصراره
على رفض الإمارة قال: "تُوَلُّوني فيها ثم تتركوني وحدي".
وفي ذلك الوقت كان سيدنا عمر يعرض الإمارة على أكثر من مسلم، وكلهم
يرفضها على عكس أزمانٍ أخرى يتقاتل الناس فيها عليها، ولما أصر سيدنا عتبة
بن غزوان على رفضه أقسم عليه سيدنا عمر ليرجعَنَّ إلى عمله.
وفي الطريق إلى البصرة يدعو سيدنا عتبة بصوت يسمعه أصحابه ويقول: اللهم
إن كان لي عندك خيرٌ فخُذْني ولا تبلِّغْني البصرة, فاستجاب الله دعاءه،
فيسقط من فوق ناقته ويموت t في طريقه إلى البصرة.
وبعد موت سيدنا عتبة بن غزوان يُقِرُّ سيدنا عمر بن الخطاب المغيرة بن
شعبة على البصرة، ثم يستخلف بعده بقليل سيدنا أبا موسى الأشعري .
وبتتبع الأحداث في العام السابع الهجري نجد أن المنطقة التي أضيفت إلى
نفوذ المسلمين هي منطقة الجزيرة بالكامل، لكن نفوذ المسلمين في شرق فارس لم
يتغير عن العام السادس عشر الهجري، وبناءً على قرار سيدنا عمر بن الخطاب
لم يتوغل المسلمون في منطقة فارس، وحتى الجيش الذي خرج من البصرة لينقذ
المسلمين في موقعة طاوس رجع ولم يتوغل في الأراضي الفارسية، ولم يسيطر على
هذه المنطقة.
أحداث العام السابع عشر الهجري :
نستطيع أن نوجز الأحداث الرئيسية في العام السابع عشر الهجري:
أولاً: تأسيس مدينة "الكوفة" التي أصبحت عاصمة المسلمين.
ثانيًا: انتقال سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي من الساحة الفارسية إلى
الشام لنجدة الجيوش الإسلامية، وحتى بعد انتصار سيدنا أبي عبيدة بقي سيدنا
القعقاع في الشام.
ثالثًا: استطاع المسلمون فتح الجزيرة بسهولة كما ذكرنا.
رابعًا: الطاعون الذي انتشر بين المسلمين واشتهر باسم طاعون "عِمْوَاس"،
ومات فيه كثير من المسلمين، منهم -كما ذكرنا- سيدنا أبو عبيدة بن الجراح
وسيدنا معاذ بن جبل.
خامسًا: من الأحداث المهمة في هذا العام موقعة "طاوس" التي استُشهِدَ فيها كثير من المسلمين، وتمَّ النصر للمسلمين في النهاية.
سادسًا: مات سيدنا عتبة بن غزوان بعد قفوله من الحج إلى البصرة أميرًا،
واستخلف مكانه سيدنا عمر بن الخطاب المغيرة بن شعبة، ثم سيدنا أبا موسى
الأشعري.
هذا موجز لأحداث العام السابع عشر من الهجرة.
لم يكتفِ يزدجرد بوقف سيدنا عمر بن الخطاب للقتال والتوغل في الأراضي
الفارسية، فظل يحفز الجيوش الفارسية للإغارة على القوات الإسلامية المسيطرة
على هذه المنطقة؛ فيطلب من القواد الفارسيين الذين ما زالوا في أماكنهم
محاربة المسلمين، ومن ضمن رسائله أرسل رسالة إلى الهرمزان وكان قد عاهد
المسلمين للمرة الثالثة على دفع الجزية وعدم قتال المسلمين، وما إن وصلت
رسالة يزدجرد إلى الهرمزان حتى تذكر الأمجاد السابقة، وتذكر الملك
والانتصارات وجرت الخيانة في دمه كما عهده المسلمون؛ فثار على المسلمين
معلنًا نقض العهد مع المسلمين للمرة الرابعة، وما إن وصلت تلك الأنباء إلى
سيدنا عمر بن الخطاب وعلم بنقض الهرمزان للعهد، حتى استشاط غضبًا وقرر أن
يدكَّ قوات الهرمزان، فيرسل سيدنا عمر أكثر من رسالة، ويُدبِّر أكثر من أمر
لتدور معركة من أعنف المعارك الإسلامية مع الفرس.
أما عن أحداث تلك المعركة، فهذا ما نعرفه في المقال القادم إن شاء الله.